الأَدب كما يفهمُه الجيل
-الجزء الأول-
عَباس محْمود العَقّاد
قبل أن نخوض في تعريف الأدب الصادق وبيان الوجه الذي يجب أن يفهم عليه
ينبغي أن ننبه إلى اجتناب خطأ شائع يضل كل تقدير ويفسد كل تعريف وليس يتأتى
درس صالح لأي باب من أبواب الأدب قبل الخلاص من آفته وانتزاع كل أثر عالق
بالذهن من آثاره ، ذلك الخطأ هو النظر إلى الأدب كأنه وسيلة للتلهي
والتسلية فإنه هو أس الأخطاء جميعاً في فهم الآداب والفارق الأكبر بين كل
تقدير صحيح وتقدير معيب في نقدها وتمحيصها ، فنحن إذاً لا نتكلم الآن في
الأدب الصادق والنظرة التي تجب له من أبناء الجيل وإنما نبدأ بالكلام أولاً
في النظرة التي يجب ألا ينظروا إليه به ، وهذه عندنا هي أوجز طريق إلى
تعريفه الصحيح .
إن اعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يصرفه عن عظائم الأمور ويوكله بعواطف البطالة والفراغ لأن هذه العواطف أشبه بالتلهي وأقرب إلى الأشياء التي لا خطر لها ولا مبالاة بها ، وماذا يرجى من البطالة والفراغ غير السخف وفضول الكلام؟؟ واعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يرفع عن الشاعر كلفة الجد والنظر الصادق فيصغى إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل يلغو بمستملح الخطأ ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله فلا يحاسبونه على كذب ولا يطالبونه بطائل في معانيه ولا يعولون على شيء مما يقوله ، وإذا غلا في مدح أو هجاء أو جاوز الحد في صفة من الصفات فمسخ الحقائق ونطق بالهراء وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة وخلط بين الصواب والخطأ مثّل أشواق النفوس وآمالها وفضائلها على خلاف وجهها المستقيم في الطبائع السليمة غفروا له خطأه وقالوا لا عليه من بأس:
أليس الرجل شاعراً؟؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد .
واعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو علة ما يطرأ على الكتابة والشعر من التزويق والبهرج الكاذب والولع بالمحسنات اللفظية ، لأن المرء يجيز لنفسه التزويق والتمويه ومداعبة الوقت حين يتلهي بشغل البطالة ، ولكنه لا يجيز لنفسه ذلك ولا يميل إليه بطبعه حين يجد الجد ويأخذ في شئون الحياة بل لعله ينفر ممن يعرض عليه هذه الهنات في تلك الساعة ويزدريه ويخامره الشك في عقله !
فمما تقدم نرى على الإجمال أن هذا الاعتبار الفاسد هو العلة في كل ما يعرض للآداب من آفات الإسفاف إلى الأغراض الوضيعة والغلو والعبث وتشويه المعاني والكلف المفرط بمحسنات الصناعة وغيرها من ضروب التزييف ، وهذه كما نعلم هي جماع ما يعتري الآداب من آفات المعنى واللفظ في اللغات والعصور كافة ، ومن شاء تحقيق ذلك والتثبت منه في تواريخ الآداب فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية ولينظر في أي عهد هبط الأدب العربي؟؟ إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية ولا في عهد الدولة الأموية ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومناداتهم في أوقات فراغهم ، وكان أول ما ظهر من عيوبه المبالغة لأن كثرة الممدوحين والمادحين تدعو إلى التسابق في تعظيم شأن الممدوح وتفخيم قدره وتكبير صفاته على صفات الممدوحين قبله فلا يقنع الشاعر ولا الملك أو الأمير بالقصد في الوصف ، ويجر ذلك إلى التفنن في معاني المدح وغير المدح لأن المبالغة الساذجة لا ترضي في كل حين ولابد من شيء من التنويع واللباقة يسوغون به هذه المبالغات المتكررة ، ومن هذا التفنن والاحتيال تنشأ المغالطة في المعاني والتورية المتمحلة والهزل العقيم ، ومتى اجتمعت المغالطة في المعاني والتسلية فهما كفيلان بإتمام ما يبقى من صنوف التلفيق في اللفظ والمعنى وضروب التشويه وسائر ما تجمعه كلمة التصنع .
وهكذا كان الشأن في اللغات كافة فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة ، وربما اختلفت أعراض الانحطاط بعض الاختلاف بين عصر وعصر وبين لغة ولغة ولكنه لا اختلاف البتة في أن آداب التلهي والتسلية لم تكن قط نامية ناهضة وأنها كانت في كل حالة من حالاتها قرينة السخف والغثاثة ، فإذا بدأ الناس ينظرون إلى الأدب بعين لاهية لاعبة فقد آذنت حياتهم بالخلو من الجد ودل ذلك على ضعف نفوسهم وحقارة الشئون التي يمارسونها ، لآن الأدب هو ترجمان الحياة الصادق فكما يكون الأدب تكون الحياة ، إن جدّا فجد وإن هزلا فهزل على أن الأدباء قد يجدّون والأمة هازلة سادرة ولكنه قلما يهزلون والأمة جادة متيقظة ، ولا أمل في النجاح إن لم يكن الأدب مستقراً على قواعد الفطرة الإنسانية الباقية لا على الأهواء العارضة ولا المآرب الفردية الخاوية .
وها قد وصلنا إلى مفترق طريقين في تعريف الأدب: فمن هنا أدب تمليه بواعث التسلية وعلالات البطالة ، ومن هنا أدب تمليه بواعث الحياة القوية وتخاطب به الفطرة الإنسانية عامة وهو الأدب الصحيح العالي .
- مصدر المقالة: كتاب المؤلف (مطالعات في الكتب والحياة ص 7-الطبعة الرابعة 1987- دار المعارف)